شبكة قدس الإخبارية

عن يائير غولان وباراك وأولمرت.. هل استيقظ فيهم الضمير فجأة؟ 

٢١٣

 

photo_2025-05-24_22-18-38

خاص - شبكة قدس:  "إذا استمرت حماس في مضايقة مستوطني غلاف غزة، يجب وقف المساعدات الإنسانية تماما، وخوض معارك برية وتحت أرضية داخل قطاع غزة، وعلى نطاق واسع. العمليات البرية وحدها قادرة على تقليص التهديد على الجبهة الداخلية بسرعة"، ليس المتحدث إيتمار بن غفير، بل يائير غولان، والمضايقة التي يقصدها هي إطلاق الصواريخ وبشكل محدود، وليس طوفانا كالذي نفذته كتائب القسام. هذا جزء من مقالة لزعيم حزب "ديمقراطيين" نشرها في مركز القدس للدراسات الأمنية والاستراتيجية في 14 أبريل 2019. هو نفسه الذي وصف وجود جنود جيش الاحتلال بالضفة الغربية بـ"الاحتلال" بعد أن كان قائد فرقة الضفة الغربية في جيش الاحتلال، ومن الذين قادوا حملة "السور الواقي" (اجتياح الضفة) ومن منظري الحسم العسكري الاستراتيجي. 

هذه اللغة الاعتذارية التي تحكم منطق غولان ليست معزولة عن سياق ما يعرف إسرائيليا باستراتيجية "الاعتراف المحدود"، التي بدأت على شكل رواية كتبها يزهار سميلانسكي" الذي أجل شعوره بالندم إلى ما بعد المجزرة، لأن "المشاعر والضمير" لا مكان لهما في الحرب، فكانت هذه النظرية ملخص لروايته التي نشرت لأول مرة عام 1949 بعنوان "خربة خزعة". تحكي الرواية قصة جنود من جيش الاحتلال كُلفوا وتطوعوا بتنفيذ عملية تطهير عرقي في بعض القرى الفلسطينية مباشرة بعد نهاية حرب 1948. تصور الرواية بالتفاصيل الجرائم التي ارتكبها الجنود من قتل وتدمير وتهجير وتفاخر بكل ما سبق. لكن إذا كانت نغمة الندم والتردد واضحة في رواية يزهار، فإن نموذج "نُطلق النار ونبكي" تطور بمرور الزمن ليصبح استراتيجية إسرائيلية. 

تقول الباحثة في قضايا الذاكرة أفيفا لوريه أن المؤسسات الرسمية للاحتلال تشرعن سرديات "الاعتراف المحدود" ضمن أطر سياسية محسوبة، وتشير إلى أن الاعتراف لا يكون سياسيًا فعليًا ما لم يرافقه فعل مادي وتعويض وتفكيك للبنية التي تعدّ المركز المؤسس والمحرّك لهذه الجرائم. لكن في الواقع الإسرائيلي الحالي لم تعدّ المؤسسات الرسمية تسمح بمثل هذا النقد أو "الاعتراف المحدود" وهو ما سيتم التطرق له لاحقا. لكن وبالعودة إلى غولان، فإنه يحاول أن يضع القصة لدى مجموعة من الأشخاص؛ بنيامين نتنياهو ومن حوله، بينما يبرئ الطبيعة المؤسِسة لكيان الاحتلال الذي قام أصلا على القتل والتهجير والإبادة،  فمثل هذه التصريحات التي يدلي بها مثل "حكومة تعتبر قتل الأطفال هواية" تصوّر الأمر وكأنه "حادثة" أو "خطأ مأساوي"، أو نتيجة سوء تقدير من النخبة الحاكمة فقط، لا كنتيجة طبيعية لبنية استعمارية مستمرة، وهذا يعزل الجريمة عن سياقها الحقيقي. 

غولان نفسه تورط في دماء الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين، لكن الاختلاف أنه لم يكن يتفاخر بذلك، بل قد يسوّق الجريمة في سياق التوتر بين القيم الأخلاقية والمهمة المقدسة في الدفاع عن النفس، وهي السردية التي تحمل صيغة "اعتذارية" تشرعن الجريمة ولا تطالب بمعالجة آثارها. قد نفهم أكثر منطق غولان من خلال تصريحات رئيس وزراء الاحتلال السابق إيهود باراك الذي انتقد إعلان النوايا من بعض الوزراء في حكومة نتنياهو، سموتريتش وبن غفير، لأنهم من وجهة نظره سيحولون "إسرائيل" إلى دولة منبوذة. المشكلة المركزية لدى باراك "سمعة إسرائيل" وليس "إسرائيل" نفسها التي قامت بنفس الوحشية التي تمارسها اليوم في قطاع غزة. بل إن باراك الذي تعود أصوله إلى شمال ليتوانيا سمح لنفسه بتعريف غزة بأنها فلسطينية، وهو توصيف وتعريف احتفى به الإعلام الفلسطيني والعربي، رغم أن تصريحه يحمل في طياته إعادة إنتاج للذات الإسرائيلية المهيمنة التي تمتلك الحق في تعريف العلاقة بين سكان الأرض الأصليين وأرضهم. 

واللافت أن هؤلاء القتلة يجعلون من مشاعرهم وتصريحاتهم مركزية أكثر من مشاعر الضحية نفسها، فتتصدر تصريحاتهم عناوين الأخبار ويهتم بها المحللون والمثقفون والصحفيون ووسائل الإعلام وكأنها المفتاح لمحاسبة المجرمين أو الاعتذار الذي يليه الحل. يؤكد الخبير في العلاقات العسكرية المدنية يغائيل ليفي أن استراتيجية الاعتذار و"الاعتراف المحدود" ساهمت كثيرا في رد الانتقاد عن الجرائم الإسرائيلية كون العالم تلقاها كتعبير عن "أحداث لا علاقة لها ببنية الدولة ولا بمبناها الاعتقادي، ولا تمت بصلة لأخلاقيات الضابط والجندي ورئيس الوزراء والوزير" وإنما استثناء كان ضحيته القاتل تجسيدا لمقولة رئيسة وزراء الاحتلال السابقة غولدا مائير "لا يمكننا أن نسامح العرب لإجبارهم إيانا على قتل أطفالهم".

بعض النخب الإسرائيلية اعتمدت التعبير المليء بالمفارقات حول اللغة "الاعتذارية" التي يخرج بها الضباط والقادة القتلة بعد جريمتهم وخاصة بعد خروجهم من المؤسسة التي عملوا فيها في زمن الجريمة بما ينسجم مع مقولة غولدا مائير، هو "يطلقون النار ثم يبكون"، وهو ما عرف لاحقا بـ"أدب الاعتراف" والذي في كتابات عاموس عوز، دافيد غروسمان وغيرهم. الذين بالغوا في الوقاحة حدّ إغراق المتلقي في الألم النفسي للجنود بعد تنفيذهم جرائم بحق الفلسطينيين، مع التركيز على "ألم ضمير الجلاد" أكثر من "مأساة الضحية". يذكرنا ذلك بقول يائير غولان "لم أقصد الجنود، وإنما الحكومة". لقد تعامل غولان مع الجنود كضحايا يقتلون ويدمرون ويهجرون خارج سياق ضميرهم الإنساني، والمشكلة في من يعطي الأمر وهو ما يعني أن القضية صراع أخلاقي داخل مجتمع أخلاقي.

تصريحات أولمرت تعدّ مدرسة متقدمة في استراتيجية "الاعتراف المحدود"، فمثلا يقول "ما تقوم به إسرائيل يقترب من جريمة حرب"، فهو لا يتحدث عن وقوع الجريمة بعد عشرات آلاف الشهداء وكل هذا الدمار وعمليات التهجير، بل إنه يخشى من وقوع الجريمة، وهذا يعني أن ما يجري ليس جريمة حرب من وجهة نظره، وهو تأجيل للإدانة إلى "مستقبل افتراضي"، وكأن الجريمة لم تكتمل بعد، وبأن كل ما يجري هو "ضمن حدود القانون" ما لم يُثبت العكس.

لكن، كيف يمكن تفسير الهجوم على غولان رغم أن تصريحاته مرتبطة باستراتيجية إسرائيلية عسكرية وسياسية منذ بداية الاحتلال. الإجابة قد نجدها في كتاب "يطلقون النار ولا يبكون: العسكرة الجديدة لإسرائيل في الألفية الثالثة" للخبير العسكري يغئال ليفي، والذي نُشر عام 2023. يشير في كتابه إلى أن صعود تيار الصهيونية الدينية والمستوطنين داخل مؤسسات الاحتلال الرسمية خلق تيارا جديدا لا يبالي بضرورة الحفاظ على صورة الاحتلال حول العالم. وبما أن هذا التيار هو الذي يسيطر على المشهد الإسرائيلي، فمن الطبيعي أن يتعرض غولان للنقد، الذي لا يتبنى مقاربة لصالح الفلسطينيين، وإنما لصالح المشروع الصهيوني الذي من وجهة نظره يجب أن يبقى قاتلا أخلاقيا، على النقيض من التيار الصاعد الآخر الذي لا يرى ضرورة "لأخلقة القتل".